فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}
وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} [يونس: 36] يفيد أن بعضهم كان يتبع يقيناً؛ لأن مقابل الظن هو اليقين، فالنسب التي تحدث بين الأشياء تربط بين الموضوع والمحمول، أو المحكوم والمحكوم عليه، وهي نسب ذكرناها من قبل، ونذكِّر بها، فهناك شيء أنت تجزم به، وشيء لا تجزم به. وما تجزم به وتُدلِّل عليه هو علم يقين، أما ما لا تستيطع التدليل عليه فليس علم يقين، بل تقليد، كأن يقول الطفل: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
وهذا حق، لكن الطفل لا يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به، وهو غير واقع؛ فذلك هو الجهل.
والعلم هو القضية المجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، على عكس الجهل الذي هو قضية مجزوم بها وليس عليها دليل.
والظن هو تساوي نسبتين في الإيجاب والسلب، بحيث لا تستطيع أن تجزم بأي منهما؛ لأنه إن رجحت كفة كانت قضية مرجوحة، والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم. فالظن هو ترجيح النسب على بعضها. والشك هو تساوي الكفتين.
وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} [يونس: 36] يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك إما عناداً رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه، وإما أنهم يعاندون عن غير علم، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39].
وكان الواحد منهم إذا تمعَّن في البلاغ عن الله تعالى والأدلة عليه، يعلن الإيمان، لكن منهم من تمعن في الأدلة وظل على عناده، والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما لا يغني من الحق شيئاً.
لذلك يبيّن لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم، ويعلم إن كان إنكارهم للإيمان نابعاً من العناد أو من العجز عن استيعاب قضية الإيمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36].
إذن: فقد علم الله سبحانه أزلاً أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة الإيمان، لكنهم يجحدونها، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى عليم، ولا يخفى عليه أنهم كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبعضهم لم يفهم قيمة الإيمان، ومن علم منهم قيمة الإيمان جحدها، عناداً واستكباراً.
يقول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى}

.تفسير الآية رقم (37):

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)}
وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر الأعداد والإخبار بالمغيبات التي لا تخضع لمنطق الزمان، ولا لمنطق المكان، فالفطرة السليمة توقن أن هذا القرآن لا يمكن أن يُفتَرى، بل لابد أن قائله ومُنزِّله عليم خبير؛ لأن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة.
أي: أن ما به دائماً هو أمام الناس، أو مواجه لهم، وهو كتاب مصدِّق للكتب السابقة من قبل تحريفها كالتوراة والإنجيل والزبور، وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولاً، لا واقعاً، فجاء القرآن مصدِّقاً لها.
أي: هي تصدقه، وهي يصدقها من قبل تحريفها، وهي الكتب التي بشَّرت بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلام بمجيء محمد عليه الصلاة والسلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6].
فلما جاء أحمد(محمد صلى الله عليه وسلم) ونزل عليه القرآن صدَّق الإنجيل في قوله هذا، وما جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية، فالحق سبحانه يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163].
ويقول الحق سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13].
إذن: فهناك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية، وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب السماوية، وأبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وفيه تلك الأخبار، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بتلك العقائد الصحيحة، وتلك الأخبار الموجودة في الكتب السابقة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل الكتاب، ولا عَلِمَ منهم شيئاً.
إذن: فعندما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن، فهذه الكتب مصدقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الأخبار قد وقعت، وهذا تأكيد لصدقه؛ لأنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ كتاباً، وتاريخه وسيرته معروفة؛ لأنه من أنفسكم، ولم يُعْلَم عنه أنه قد زاول كلاماً بليغاً، أو خطب في قوم قبل الرسالة، أو قال شعراً.
وبعد ذلك فوجئ هو كما فوجئتم أنتم، بمجيء هذا البيان الرائع، فمن أين جاء به؟
أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به، لكنه صلى الله عليه وسلم ينسب الرفعة لصاحبها، ويعلن أنه صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ فقط، فيقول ما أمره الله به أن يقوله: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
ويحضُّ القرآن الكريم النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: هل لاحظوا على كلماته من قبلُ البلاغةَ والفصاحةَ أو الشعرَ؟!
ولننظر في (ماكُنَّات) القرآن الكريم، وهي الآيات التي يقول فيها الحق سبحانه: {وَمَا كُنتَ} مثل قوله سبحانه: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44].
وهذا أمر ثابت في الأخبار.
وقول الحق سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44].
والوحي إلى موسى عليه السلام والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الأخبار.
وقول الحق سبحانه: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45].
وكثير من هذه الآيات تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم وكأنه يسأل المعاصرين له: كيف أخبرت بوقائع وأخبار لم أكن موجوداً في زمانها أو مكانها؟
لا بد إذن أن الله الحق سبحانه هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار.
وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقاً لما بين يديه: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97].
أي: أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم؛ لأن القرآن خرق حُجُب وحُجُزَ الماضي والمستقبل.
ونحن نعلم أن الأشياء الغيبية تحدث بسببين؛ الأول: ان يتكلم عن شيء سبق الزمان الذي نزل فيه، فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الاطلاع والتعلم ليعرفه ويعلمه.
وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله، هذا الحاضر الذي قد يكون محجوباً بالمكان.
وأضرب هذا المثال ولله المثل الأعلى فقد يحدث حادث في الإسكندرية في نفس الوقت الذي تكون أنت فيه موجوداً بالقاهرة، وأنت تعلم هذا الحدث؛ لأنه محجوب عنك ببعد المكان، وحاجز المكان يتمثل غالباً في الأمور الحاضرة، أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان والمكان معاً.
وحين يخبرنا القرآن الكريم بحدث ماضٍ لم يشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعلمه، ولم يقرأ عنه؛ إذن: فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي. وإذا أخبر القرآن بحدث حاضر في غير مكان نزوله على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا خرق لحجاب المكان مثل قول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].
وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم، لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن، وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم.
إذن: فأخبار الغيب في القرآن إما خَرْقٌ لزمان ماضٍ أو خرق لزمان الحال، وإما خرق الزمان ومكان الاستقبال.
ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف، لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا أحد يجير على أحد، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليعرض الإسلام على أهلها، لعلَّه يلتمس لهم مجيراً من أهل الطائف؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يجد إلا الإيذاء والإعراض، ويوصي بعضاً من صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة.
وفي ظل كل هذه الأزمات، ينزل قول القرآن: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستاءل: أيُّ جمع هذا الذي يهزم، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش؛ فيرى رأي العين صدق ما جاء به الوحي من قبل.
وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مُفتريً، فكيف يُتَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه افتراه؟
وإذا كان هذا القرآن مفترىً، فلماذا لا تفترون مثله؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء؟! ولم يقل محمد صلى الله عليه وسلم أنه بليغ أو خطيب أو شاعر، ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا بواحد مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لا صلة له بالبلاغة أو الفصاحة، بل يطلب منهم أن يأتوا بالفصحاء كلهم، ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن.
وإن قالوا: إن ما جاء به هو السحر، وإن محمداً ساحر قد سحر العبيد والضعاف، وأدخلهم في الإسلام، فلماذا لم يسحركم محمد؟
إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلاقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [يونس: 37].
فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الأحكام الصالحة إلى قيام الساعة، أما الكتب السابقة على القرآن فكان تضم الأحكام المناسبة لزمانها، ولأمكنة نزولها.
وهو كتاب {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك فيه، يكشف الكفار، ويفضح أرتيابهم وكذبهم، فَهُمْ قد اعترفوا بعظمة القرآن وقالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن: فهم قد عرفوا أن القرآن لا عيب فيه، ولا ريب، حتى من الكافرين به.
ويأتي الرد على قولهم بالافتراء، في قول الحق سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ}

.تفسير الآية رقم (38):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}
وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسبابُ عجزهم عن النجاح في التحدي؛ لأن الآية السابقة تقرر أن الكتب السماوية السابقة تُصَدِّق نزول القرآن الكريم، وبينها وبين القرآن تصديق متبادل.
فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38].
وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قول الحق سبحانه: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88].
ولم يستطيعوا، فنزلت درجة التحدي؛ وطالبهم أن يأتوا: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].
فلم يستطيعوا الإتيان بعشر سور، فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب ولو من بعيد من أسلوب القرآن، فلم يستطيعوا {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
فكيف إذن من بعد كل ذلك يدَّعون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وهو صلى الله عليه وسلم لم تكن له صلة بالأساليب البلاغية أو الفصاحة؟!
لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا، ولو سورة من مثله، ووضع شرطاً فقال: {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} [يونس: 38].
لأن الله سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن يُنزل قرآناً؛ لذلك دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الشركاء؛ وذلك حتى لا يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة: سندعوا الله؛ ولذلك يأتي القرآن بالاستنثاء {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي.
والله سبحانه وتعالى حين يرسل رسولاً إلى قوم؛ ليعلِّمهم منهجه في حركة الحياة، إنما يريد سبحانه أن تؤدي حركة الحياة إلى الغاية المطلوبة من الإنسان الخليفة في الأرض؛ ولذلك يأتي الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليكون أسوة لهم؛ لأن الرسول إن جاء مَلَكاً لما صحَّت الأسوة، بل لابد أن يكون بشراً.
والحق سبحانه لا يرسل أي رسول إلا ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلِّغ عن الله تعالى.
والبينة لابد أن تكون من جنس نبوغ القوم، فلا يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه؛ حتى لا يقولوا: لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء.
وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلام؛ شعراً ونثراً وخطابة.
وكان القرآن هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم فصحاء يعقدون للشعر أسواقاً، ويعلِّقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به.
إذن: فهم أصحاب دراية بصناعة الكلام، وجاءت المعجزة مع الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغوا فيه؛ لتتحداهم.
والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم؛ ليرد على هذا المتحدي، فإذا عجز مع التحدي، يصير العجز ملزماً.
وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعاً بالقرآن كله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88].
فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فتدرَّج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك، وهو أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].
ثم تحداهم بالإتيان بمثل سورة من القرآن.
وعند التأمل نجد أن الأسلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين: فمرة يقول: {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38].
ومرة يقول: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
وكل من اللونين بليغ في موضعه ف {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] تبين أن المثلية هنا محققة، أي: مثل ما جاء من سورة القرآن. وقوله: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
أي: سورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أنه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ، ولا عُرف عنه أنه تكلم بالبلاغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة.
وقال الحق سبحانه: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
إذن: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
أي: مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يتعلم وكان أمياً، ولكن لماذا يأتي هذا اللون من التحدي؟
لأنهم قالوا عن القرآن: {أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].
بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة، فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل الذي قالوا إنه معلم للرسول صلى الله عليه وسلم كان أعجمياً غير عربي، يقول الحق سبحانه: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
ويريد الحق سبحانه أن يصنفهم، فيقول بعد ذلك: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ}